جالساً علي كرسيه..
ممسكاً كوباً من شاي...
وقطعة فايش حديدية القوام يدسها في الكوب بين الحين والآخر محاولاً، عبر جهد مرسوم بتجعيدات وجهه، أن يقضمها.
بينما صوت المذيع في النشرة يؤكد، علي لسان رئيس الوزراء: "مصر قادرة علي مواجهة التحديات". يسمع ذلك فتتسع شفتاه بضحكة تسحب علي إثرها إحدي فتافيت الفايش التي في يده عابرة مدخل الفم الخالي من الأسنان -تقريباً - متحايلة علي اللهاة وواصلة لمدخل القصبة الهوائية.. لينفجر الرجل في السعال ويدركه صبي القهوة بكوب ماء (إتشاهد يا عم صابر)، ويتابع ويده تضرب ظهر العجور (هوا انت حِمل الفايش؟!).
ويفيق العم صابر من سعاله مبتسماً وقائلاً (مصر قادرة علي مواجهة التحديات)... يزدرد كوب الماء ويطيل النظر إلي مشاهد الرسالة الإخبارية لمؤتمر الحزب الوطني.
صوت المذيع يتابع بحماس (لقد شدد الرئيس علي أن مواصلة النمو وتوسيع العدالة الاجتماعية أولوية رئيسية للحزب والحكومة) قطرات العرق النابتة من أرض جبين العم صابر تطرح ثمارها بفعل مجهود القتال مع الفايش الحديدي فيقرر أن يسلم الكوب والفايش للطاولة أمامه معتبراً أن جولته الأولي في الصراع مع الفايش باءت بالفشل.
صوت المذيع الرسمي عاد يداهمه (الحزب الوطني يؤكد علي تحسين نوعية حياة المواطنين ومكافحة الفقر).. مثّل هذا التصريح نقطة تحول في الاتجاهات لدي العم صابر فأعطي ظهره للتليفزيون وأسلم رأسه الملفوف بعمامته الصفراء ذات الأصول البيضاء لبحر نوم عميق.
لا يعرف تحديداً عم صابر ما الذي دفع قيادات الحزب الوطني لدعوته لمؤتمره غير أنه وجد نفسه فجأة جالساً بينهم ! فوق منصة المؤتمر..
صفوت باشا يداعب شاربه، والدكتور زكريا يعدل من وضع جلسته بعد أن لاحظ صورته في شاشة المؤتمر، والدكتور علي الدين هلال يتبادل النظرات مع عز باشا الجالس في مواجهته بالصف الأول.
والبيه جمال "الله يحميه" يراجع ترتيب الأوراق التي علي يمنيه.
و"الدكتور شهاب منور في القاعدة.. هيبه ماشاء الله".
لم يكن المؤتمر كما يشاهده في التلفزيون.. كان أكثر بحبحة وصراحة.
صعد "عز باشا" درج المنصة ورفع يديه ليسحب الميكروفونين إلي مواجهة فمه... وقال "معنا دليل علي دور الحزب في الشارع المصري.. راجل من الشارع.. عم صابر... إبن مصر البار" وقطع تقديمه هدير القاعة بالتصفيق، الجميع نظر إلي عم صابر والمنصة أشارت له أن يقف ليبادل الناس التحية.. بغير وعي انتصب عوده ووقف..انتفخت أوداجه..و راح يلوح.. بينما التصفيق يعلو وتعلو اليد الأخري ملوحة.
حتي المنصة تصفق للعم صابر.. الذي بدا مستغرباً في البداية لكنه مع إلحاح التصفيق راحت غيوم الاستغراب تنقشع تدريجياً ليحل محلها إحساس بالطمأنينة والثقة.
صوت الباشا "عز" قطع التصفيق ليؤكد "إن مؤتمرنا هذا مختلف لأنه يوثق لبرنامجه بمباركة الشعب الذي اختار عم صابر نائباً عنه... وممثلاً لطبقته الكادحة التي يستهدفها الحزب بالدرجة الأولي... تقدم يا عم صابر لتقول كلمتك"
وعاد التصفيق بين خطوات العم صابر التي تحمل أثقال 65 سنة تقطع المسافة الفاصلة بين كرسيه ومنصة الحديث ويداه تلوحان طول الطريق للمصفقين من الأعضاء والعضوات.
العم صابر يتذكر جيداً ما تم إملاؤه عليه.. تحسس ورقة المائتي جنيه التي منحها له أحد البهوات.
خطوة عم صابر الأولي ذكرته بفريق العاطلين علي مقهي العاصمة..
والخطوة الثانية ساقت له أن يبدأ بفريق المساطيل الذين أحالتهم المخدرات إلي وحوش تنتظر العائدين آخر الليل لتُثبتهم.
أما ثالثة خطواته فأوحت له أن يبدأ بفريق الموظفين الذين يعملون بالنهار في الوظائف وبعد العصر "سريحة" أو علي التاكسيات والتكاتك.
وحملته خطوته الرابعة إلي العيش الذي لا يجده إلا بعد جهاد يصل لحد العمليات الانتحارية.
وكانت خطوته الخامسة نحو المنصة حافزاً ليبدأ بالشقق التي ارتفعت أسعارها وهو ما تسبب في تأخر سن الزواج والعنوسة والجواز العرفي والدكاكيني وانتشرت الشقق المشتركة وضاعت الأخلاق والسلوكيات.
وحثته سادس خطواته أن يبدأ بكوسة التعيينات والترقيات والعمد والعمداء والبعثات والمبعوثين؟
ونقلته خطوته السابعة إلي ملف الفساد حيث الملايين المنهوبة والكبار الذين تعج بهم زنازين الخمس نجوم في مصلحة السجون وقضايا الدم الفاسد وسرقة الأعضاء وبيع الآثار والاحتكار والعبارة التي غرقت والقاطرة التي بأهلها احترقت والصخرة التي علي أهل الدويقة وقعت...
كلما حثته خطواته علي أن يشهد بالواقع أكد له ضميره الحزبي أن هذا كله لا يعدو كونه مهاترات من "الآخر" المعارض طبعاً والذي لا يجلب علي البلد إلا عدم الاستقرار..
وقطع حبل تفكيره "عز باشا" وهو يرفع الميكروفونين أمام قامة عم صابر المنتصبة قائلاً بثقة "قول كلمتك يا عم صابر".
نظراته اخترقت جدار قاعة المؤتمرات البعيد.. عبرته لتصل إلي غد تحمله أيامه إليه حين يقف بين يدي ربه فردا.
أسماعه تلاشت منها طرقعات أيادي أعضاء الحزب التي أدمنت التصفيق وحل محلها صرخات "أم جابر" المتكررة علي جابر المدفون بغير قبر في بحر فساد ابتلع العبارة وجابر.
يده صارت عاجزة عن أن تلوح للهاتفين باسمه من أبناء الحزب بعدما تذكرت مشهد أياد وطنية كانت تمتد لتهتك حرمة أجساد بنات البلد.. أياد متحرشة بأعراض لا فرق فيها بين موقف سياسي وآخر ترفيهي. قدماه صارتا عاجزتين عن حمله أمام محفل الحزب الذي سمح لأجهزته أن يعلق الاستجواب أبناء البلد من أقدامهم.
جسده صار رافضاً لأنفاس الهواء المعبقة بروائح حزبية صرفة استبدلت ذرات الأكسجين فيها بذرات الولاء للحزب.
لسان عم صابر سعي ليهتف رافضاً من أعماقه لكنه تذكر مصير من هتف في عصر الحريات... تذكر الطوارئ.. والتعديلات الدستورية... والمحاكمات العسكرية.. وأناس مثل خيرت الشاطر ومحمد علي بشر وأيمن نور كانوا ينوون الهتاف.كما تذكر رجلاً يدعي حمادة عبد اللطيف هتف من أجل مستقبل ابنته فأصابوه بشلل رباعي ! وتجسدت أمامه صور سحل حمدين صباحي وعبد الحليم قنديل ومحمد عبد القدوس ومجدي حسين وغيرهم بدا له مسحولاً لمجرد الهتاف.
صارع عم صابر خوفه ليهتف رافضاً... لكن جسده كان أوهن من تحمل أوهام العبور إلي المستقبل...
كان بدن عم صابر أقل قدرة علي المقاومة فصرخ (آآآه) قبل أن يسقط... وسقط عم صابر... من علي كرسي القهوة لتدركه أيادي الناس من حوله سريعاً، فتح عينيه ليجد حلقة من الوجوه تحيط دائرة سقوطه، والكل يحدق فيه مبتسماً قالوا في صوت واحد (يا راجل إنت لسه ما ممتش)..
انتفض عم صابر واقفاً وهو يقول (مصر قادرة علي مواجهة التحديات) وابتسم بخبث ثم أردف (مؤتمر الحزب هوا اللي بيقول كده) وراح يفتش بعينيه عن الطاولة الحديدية قائلاً لصبي القهوة (فين الفايش يا وله والله ما أنا سايبه) <
ممسكاً كوباً من شاي...
وقطعة فايش حديدية القوام يدسها في الكوب بين الحين والآخر محاولاً، عبر جهد مرسوم بتجعيدات وجهه، أن يقضمها.
بينما صوت المذيع في النشرة يؤكد، علي لسان رئيس الوزراء: "مصر قادرة علي مواجهة التحديات". يسمع ذلك فتتسع شفتاه بضحكة تسحب علي إثرها إحدي فتافيت الفايش التي في يده عابرة مدخل الفم الخالي من الأسنان -تقريباً - متحايلة علي اللهاة وواصلة لمدخل القصبة الهوائية.. لينفجر الرجل في السعال ويدركه صبي القهوة بكوب ماء (إتشاهد يا عم صابر)، ويتابع ويده تضرب ظهر العجور (هوا انت حِمل الفايش؟!).
ويفيق العم صابر من سعاله مبتسماً وقائلاً (مصر قادرة علي مواجهة التحديات)... يزدرد كوب الماء ويطيل النظر إلي مشاهد الرسالة الإخبارية لمؤتمر الحزب الوطني.
صوت المذيع يتابع بحماس (لقد شدد الرئيس علي أن مواصلة النمو وتوسيع العدالة الاجتماعية أولوية رئيسية للحزب والحكومة) قطرات العرق النابتة من أرض جبين العم صابر تطرح ثمارها بفعل مجهود القتال مع الفايش الحديدي فيقرر أن يسلم الكوب والفايش للطاولة أمامه معتبراً أن جولته الأولي في الصراع مع الفايش باءت بالفشل.
صوت المذيع الرسمي عاد يداهمه (الحزب الوطني يؤكد علي تحسين نوعية حياة المواطنين ومكافحة الفقر).. مثّل هذا التصريح نقطة تحول في الاتجاهات لدي العم صابر فأعطي ظهره للتليفزيون وأسلم رأسه الملفوف بعمامته الصفراء ذات الأصول البيضاء لبحر نوم عميق.
لا يعرف تحديداً عم صابر ما الذي دفع قيادات الحزب الوطني لدعوته لمؤتمره غير أنه وجد نفسه فجأة جالساً بينهم ! فوق منصة المؤتمر..
صفوت باشا يداعب شاربه، والدكتور زكريا يعدل من وضع جلسته بعد أن لاحظ صورته في شاشة المؤتمر، والدكتور علي الدين هلال يتبادل النظرات مع عز باشا الجالس في مواجهته بالصف الأول.
والبيه جمال "الله يحميه" يراجع ترتيب الأوراق التي علي يمنيه.
و"الدكتور شهاب منور في القاعدة.. هيبه ماشاء الله".
لم يكن المؤتمر كما يشاهده في التلفزيون.. كان أكثر بحبحة وصراحة.
صعد "عز باشا" درج المنصة ورفع يديه ليسحب الميكروفونين إلي مواجهة فمه... وقال "معنا دليل علي دور الحزب في الشارع المصري.. راجل من الشارع.. عم صابر... إبن مصر البار" وقطع تقديمه هدير القاعة بالتصفيق، الجميع نظر إلي عم صابر والمنصة أشارت له أن يقف ليبادل الناس التحية.. بغير وعي انتصب عوده ووقف..انتفخت أوداجه..و راح يلوح.. بينما التصفيق يعلو وتعلو اليد الأخري ملوحة.
حتي المنصة تصفق للعم صابر.. الذي بدا مستغرباً في البداية لكنه مع إلحاح التصفيق راحت غيوم الاستغراب تنقشع تدريجياً ليحل محلها إحساس بالطمأنينة والثقة.
صوت الباشا "عز" قطع التصفيق ليؤكد "إن مؤتمرنا هذا مختلف لأنه يوثق لبرنامجه بمباركة الشعب الذي اختار عم صابر نائباً عنه... وممثلاً لطبقته الكادحة التي يستهدفها الحزب بالدرجة الأولي... تقدم يا عم صابر لتقول كلمتك"
وعاد التصفيق بين خطوات العم صابر التي تحمل أثقال 65 سنة تقطع المسافة الفاصلة بين كرسيه ومنصة الحديث ويداه تلوحان طول الطريق للمصفقين من الأعضاء والعضوات.
العم صابر يتذكر جيداً ما تم إملاؤه عليه.. تحسس ورقة المائتي جنيه التي منحها له أحد البهوات.
خطوة عم صابر الأولي ذكرته بفريق العاطلين علي مقهي العاصمة..
والخطوة الثانية ساقت له أن يبدأ بفريق المساطيل الذين أحالتهم المخدرات إلي وحوش تنتظر العائدين آخر الليل لتُثبتهم.
أما ثالثة خطواته فأوحت له أن يبدأ بفريق الموظفين الذين يعملون بالنهار في الوظائف وبعد العصر "سريحة" أو علي التاكسيات والتكاتك.
وحملته خطوته الرابعة إلي العيش الذي لا يجده إلا بعد جهاد يصل لحد العمليات الانتحارية.
وكانت خطوته الخامسة نحو المنصة حافزاً ليبدأ بالشقق التي ارتفعت أسعارها وهو ما تسبب في تأخر سن الزواج والعنوسة والجواز العرفي والدكاكيني وانتشرت الشقق المشتركة وضاعت الأخلاق والسلوكيات.
وحثته سادس خطواته أن يبدأ بكوسة التعيينات والترقيات والعمد والعمداء والبعثات والمبعوثين؟
ونقلته خطوته السابعة إلي ملف الفساد حيث الملايين المنهوبة والكبار الذين تعج بهم زنازين الخمس نجوم في مصلحة السجون وقضايا الدم الفاسد وسرقة الأعضاء وبيع الآثار والاحتكار والعبارة التي غرقت والقاطرة التي بأهلها احترقت والصخرة التي علي أهل الدويقة وقعت...
كلما حثته خطواته علي أن يشهد بالواقع أكد له ضميره الحزبي أن هذا كله لا يعدو كونه مهاترات من "الآخر" المعارض طبعاً والذي لا يجلب علي البلد إلا عدم الاستقرار..
وقطع حبل تفكيره "عز باشا" وهو يرفع الميكروفونين أمام قامة عم صابر المنتصبة قائلاً بثقة "قول كلمتك يا عم صابر".
نظراته اخترقت جدار قاعة المؤتمرات البعيد.. عبرته لتصل إلي غد تحمله أيامه إليه حين يقف بين يدي ربه فردا.
أسماعه تلاشت منها طرقعات أيادي أعضاء الحزب التي أدمنت التصفيق وحل محلها صرخات "أم جابر" المتكررة علي جابر المدفون بغير قبر في بحر فساد ابتلع العبارة وجابر.
يده صارت عاجزة عن أن تلوح للهاتفين باسمه من أبناء الحزب بعدما تذكرت مشهد أياد وطنية كانت تمتد لتهتك حرمة أجساد بنات البلد.. أياد متحرشة بأعراض لا فرق فيها بين موقف سياسي وآخر ترفيهي. قدماه صارتا عاجزتين عن حمله أمام محفل الحزب الذي سمح لأجهزته أن يعلق الاستجواب أبناء البلد من أقدامهم.
جسده صار رافضاً لأنفاس الهواء المعبقة بروائح حزبية صرفة استبدلت ذرات الأكسجين فيها بذرات الولاء للحزب.
لسان عم صابر سعي ليهتف رافضاً من أعماقه لكنه تذكر مصير من هتف في عصر الحريات... تذكر الطوارئ.. والتعديلات الدستورية... والمحاكمات العسكرية.. وأناس مثل خيرت الشاطر ومحمد علي بشر وأيمن نور كانوا ينوون الهتاف.كما تذكر رجلاً يدعي حمادة عبد اللطيف هتف من أجل مستقبل ابنته فأصابوه بشلل رباعي ! وتجسدت أمامه صور سحل حمدين صباحي وعبد الحليم قنديل ومحمد عبد القدوس ومجدي حسين وغيرهم بدا له مسحولاً لمجرد الهتاف.
صارع عم صابر خوفه ليهتف رافضاً... لكن جسده كان أوهن من تحمل أوهام العبور إلي المستقبل...
كان بدن عم صابر أقل قدرة علي المقاومة فصرخ (آآآه) قبل أن يسقط... وسقط عم صابر... من علي كرسي القهوة لتدركه أيادي الناس من حوله سريعاً، فتح عينيه ليجد حلقة من الوجوه تحيط دائرة سقوطه، والكل يحدق فيه مبتسماً قالوا في صوت واحد (يا راجل إنت لسه ما ممتش)..
انتفض عم صابر واقفاً وهو يقول (مصر قادرة علي مواجهة التحديات) وابتسم بخبث ثم أردف (مؤتمر الحزب هوا اللي بيقول كده) وراح يفتش بعينيه عن الطاولة الحديدية قائلاً لصبي القهوة (فين الفايش يا وله والله ما أنا سايبه) <
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق